من أكتوبر إلى يونيو: إفلاس الرؤية وبؤس السيرة
[1]
أكمل الدكتور حسن الترابي، الزعيم الإسلامي، عامه الثمانين هذا العام. وإن قلنا إن شخصاً ما في أي مكان في عالمنا اليوم قد أكمل عامه الكذا فإن مثل هذه الجملة لا تثير في الغالب مشكلة، إلا أنها ربما تثير مشكلة في حالة الترابي. فالترابي عندما سئل مرة عن تاريخ ميلاده وهو ماثل أمام محكمة فإنه أعطى تاريخ ميلاده بالهجري. ولاشك أن الترابي، وهو رجل القانون من ناحية ورجل الحركة الإسلامية من ناحية، قد فكّر في الأمر قبل إعطاء إجابته. لا شك أنه رأى أن صياغة إجابته بتلك الصيغة ينسجم أكثر مع مشروعه الإسلامي الذي يهدف في نهاية الأمر لإخضاع حياة الناس بكل تفاصيلها لأحكام الإسلام وتعاليمه وتقاليده ورموزه وصبغ كل مظاهر سلوكهم به. وهكذا وعندما نقول في حالة الترابي إنه أكمل عامه الثمانين فلابد أن ننتبه أن ذلك بحساب التاريخ الميلادي، أما إن استخدمنا الحساب الذي تبناه الترابي يوما من الأيام عندما وقف أمام تلك المحكمة فإنه يكون في واقع الأمر قد أكمل هذا العام عامه الثالث والثمانين. وأعياد الميلاد عندما تصادف العقود عادةً ما تكتسب وزناً خاصاً وعادة ما تكون فرصة للتوقف ومراجعة النفس. لا أعلم إن توقّف الترابي هذا العام أو قبل ثلاثة أعوام ليراجع نفسه ويراجع ما أنجز في حياته الطويلة وربما ليفكّر في يوم فراقه للعالم وفي إرثه وصورته في كتب التاريخ السوداني في المستقبل (والانشغال بالإرث أمر طبيعي في حالة السياسيين القادة). ربما فعل ذلك وربما لم يفعل، ولكن دعنا نقوم بتلك المراجعة لإنجاز الرجل ونلخّص إرثه.
إن المفارقة الكبرى في سيرة الترابي أن النقطة العليا في رسمها البياني هو بدايتها، إذ أن خطه البياني يبدأ عند نقطة عالية هي لحظة مشاركته الشجاعة والبارزة مع باقي القوى السياسية والنقابية في إلهاب ثورة إكتوبر 1964 من موقعه في كلية القانون بجامعة الخرطوم. وبعد ذلك يبدأ الخط البياني في الانحدار انحداراً متواصلا فيصل في فترة الديمقراطية الثانية (1964-1969) دركه الأسفل عبر دوره (ودور حركته جبهة الميثاق الإسلامي) في توجيه أكبر طعنة للديمقراطية عندما اتخذت الجمعية التأسيسية قرارها بحلّ الحزب الشيوعي في ديسمبر 1965. وعقب انقلاب جعفر نميري اليساري في بداياته في مايو 1969 واعتقال الترابي فإن انحدار خطه البياني يتوقف ليمتد امتداداً أفقياً إلى يوليو 1977 عندما وجّه نميري سفينة نظامه لليمين ودخل في مصالحة مع أحزاب اليمين، وأصبح الترابي (وحركته) عنصراً فاعلاً في نظامه إلى أن انقلب نميري على الإسلاميين قبيل سقوطه عندما اتضح له تآمرهم لإزاحته عن السلطة بانقلاب عسكري. ويتواصل انحدار الخط البياني للترابي (وحركته الجبهة الإسلامية القومية) في فترة الديمقراطية الثالثة (1985-1989) التي لعب الإسلاميون فيها دوراً أساسياً في تأجيج نار الحرب الأهلية وإلهاب هوس الشريعة. وانتهت هذه الفترة بتنفيذ الترابي (وحركته) لانقلابه المؤجل منذ أخريات فترة نميري ووأده للنظام الديمقراطي الذي أتاح لحركته فرصة المشاركة في الحكومة وأتاح للإسلاميين كامل الفرص والحريات الدستورية التي لم تستمتع بها أية حركة إسلامية في أغلب بلاد باقي الشرق الأوسط حينها. ومنذ انقلاب يونيو 1989 فإن انحدار الخط البياني للترابي (وحركته) تواصل تواصلاً متسارعاً ليبلغ بالسودان وضعه المأساوي الحالي.
[2]
وحتى نفهم سر انحدار الترابي المتواصل وسر سقوطه فلابد أن نضع في اعتبارنا أن الترابي إسلامي بالدرجة الأولي ورجل قانون بالدرجة الثانية. وهذا شيء طبيعي في حالة كل إسلامي إذ أن الإيديولوجية تؤكد كل الوقت أن "الإسلام يقود الحياة"، وبذا يكون الاعتبار الإسلامي هو الاعتبار الحاكم الذي يعلو على كل الاعتبارات. صحيح أن دواعي التكتيك ربما تستدعي تنازلات وتراجعات هنا وهناك (لحظات "حديبية" ربما يصفها من هم بمزاج عمر بن الخطاب بأنها لحظات إعطاء "الدنية" في "الدين") ولكن لابد للهدف الاستراتيجي أن يكون منتصبا باستمرار وألا يغيب عن النظر. إن اللحظة العليا في خط بيان الترابي، لحظة إكتوبر 1964، لم تكن لحظة إسلامية وإنما كانت لحظة رجل القانون الذي انحاز لمبدأ الدستور ومثاله الأعلى وهو مبدأ الحرية. أما باقي خطه البياني فهو خط إسلامي فارق فيه الترابي ذاته القانونية وأصبح غارقاً في التآمر على القيم الدستورية حتى وأدها بانقلابه في يوليو 1989.
ولقد مثّل انقلاب يوليو 1989 على المستوى الشخصي للترابي ما يمكن أن نصفه باللحظة العليا لانقلابه على ذاته القانونية إذ أنها كانت اللحظة التي تنكّر فيها للمثال الأعلى للفكرة الدستورية وهو مبدأ الحرية. تنكّر الترابي لمبدأ الحرية السياسية ووأده بانقلابه عندما حَجَر حريات كل السودانيين السياسية، وتنكّر لمبدأ الحرية الفكرية والدينية عندما أحيا قمع الشريعة للآخر وبعث الردّة وعقوبتها من سباتها التاريخي ليصبح الحق الإنساني والطبيعي في تغيير الإنسان لدينه أو رفضه للدين جريمة تسلبه حياته. وكان من الطبيعي في ظل النظام السياسي والإيديلوجي للترابي وحركته، أو ما أطلق عليه اسم "المشروع الحضاري"، أن تتمدّد أشكال القهر لكل مناحي حياة السودانيين، وأن يذيق الترابي وحركته السودانيين ألواناً من الإذلال والعذاب لم تنقضِ حتى الآن، تفرّغوا لتأسيسها وتجويد وسائلها ولسان حالهم يقول "يعذبهم الله بأيديكم".
وإن كان انقلاب الترابي على الديمقراطية هو جريمته وجريمة حركته الإسلامية الكبرى فإن هذه الجريمة ما لبثث أن أضحت الجريمة الأم التي وَلَدَت جرائم أخرى لا تقل عنها خطراً. حوّل الترابي بمنطقه الإسلامي طبيعة الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب لحرب جهاد إسلامي، ودفع نظامُه ولأول مرة في تاريخ الحرب الأهلية بعشرات الآلاف من المواطنين المدنيين لساحات سفك الدماء والإبادة التي أطلق عليها النظام اسم "ساحات الفداء". ووصل بؤس الحركة الإسلامية وتغييبها للوعي درجة حديث أجهزة إعلامها عن اشتراك الملائكة في حربها الإبادية ضد الجنوبيين ودرجة عقد الحفلات احتفالاً بأعراس موتى النظام وزفافهم للحور العين. وفقد الجنوبي كمواطن غير مسلم حقه في الحياة الكريمة والمعاملة المتساوية في وطنه وأصبح موضوعاً لبطش يد الجهاد التي لا تنفك عن القتل والتشريد. نجح الترابي نجاحاً محزناً في أن يملأ عقول الكثيرين وقلوبهم بما امتلأ به عقله وقلبه من رغبة في الإقصاء والتحكّم والبطش بالخصوم وإذلالهم وتصفيتهم إن لزم الأمر.
وإن أصبح المواطن الجنوبي في ظل نظام الترابي موضوعاً لشريعة الجهاد وسيفه فإن سائر المواطنين أصبحوا موضوعا لسوط الشريع ، إذ أن رؤية الترابي التي تداخلت فيها إسلاميته وتدريبه القانوني أثمرت القانون الجنائي لسنة 1991. وفي واقع الأمر فإن هذا القانون هو أهم وثيقة للترابي وحركته إذ أنه يجسّد الطموحات العليا للحركة عندما تتحدث عن "تحكيم شرع الله". وهكذا يشمل القانون بالإضافة للعقوبات الموروثة من القوانين غير الدينية السابقة عقوبات الشريعة المألوفة من رجم وإعدام وصلب وقطع للأيدي والأرجل وجلد. وهي عقوبات، كما نرى، تبعث عقوبات القرن السابع في الجزيرة العربية وتتصادم مع الفطرة السليمة وحس الإنصاف والتوازن بين الجريمة والعقوبة (وهو تصادم أحس به الناس حتى في القرن السابع والقرون التي تلته) وتنتهك إجماع الحكمة التشريعية لعصرنا التي لخصتها اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1984 المتعلقة بمناهضة التعذيب والعقوبات القاسية أو اللإنسانية أو المهينة. إن ما احتواه القانون الجنائي للترابي، رجل القانون المشبع بهويته الإسلامية، يعكس عمق الهوة التي تفصل بينه وبين القيم والمثل التشريعية العليا التي يكافح القانونيون ذوو الضمائر من أجل إرسائها في عالمنا اليوم.
رغم أن حركة الإخوان المسلمين كان لها تيارها اليساري الذي انفتح على قيم الفكر الاشتراكي وظهر ذلك في كتابات عديدة مثل كتاب (اشتراكية الإسلام) لمصطفي السباعي مؤسس الحركة في سوريا وكتابات سيد قطب مثل (العدالة الاجتماعية في الإسلام) و (معركة الإسلام والرأسمالية)، إلا أن الموقف اليميني المنحاز للملكية الخاصة وعلاقات الانتاج الرأسمالية ظلّ هو الموقف السائد وسط الإخوان المسلمين. ورغم أن التيار الكبير للحركة الإسلامية في السودان برزت فيه اتجاهات يسارية ربطت الإسلام بالاشتراكية كما هو في حالة الحزب الاشتراكي الإسلامي وحالة حركة محمود محمد طه، إلا أن حركة الإخوان المسلمين السودانية ظلّت في الغالب حركة يمينية معادية لفكرة الإشتراكية أو مطمح العدل الاجتماعي. ولقد لعب الترابي دوراً أساسياً في تكريس هذا الاتجاه إذ كان حريصاً كل الوقت على وضع حركته في المسار المعاكس لليسار وخاصة الشيوعيين. وبعد مصالحته لنميري ودخوله أروقة الحكم دفع الترابي بحركته دفعاً حثيثاً في اتجاه التحالف مع رأس المال الإسلامي الذي أصبحت حركته حركة عالمية مرتبطة برأس المال العالمي. ولقد كان نمو هذه النزعة وتسارعها عاملا أساسيا من عوامل حرص الترابي على الانقلاب على الديمقراطية والاستئثار بالسلطة بأسرع فرصة ممكنة إذ أن ذلك سيضع كل إمكانيات السودان وثرواته في يده ويد حركته. وهكذا وفي ظل نظام الإسلاميين شهد السودان تحولاً تاماً في طبيعة الدولة السودانية إذ أصبحت خادمة لمصالحهم الاستثمارية وحارسة لها بالتشريع والسلاح. وممارسة الترابي وحركته انحازت في نهاية المطاف لما يمكن وصفه بالرأسمالية المنفلتة (rampant capitalism) التي تتميّز في حالة السودان بتفكيك القطاع العام وإطلاق يد الخصخصة وإخضاع مجموع العمليات الاقتصادية لاعتبارات توليد الربح السريع والآني من غير اعتبار للنتائج والعواقب الاجتماعية والاقتصادية بعيدة المدى. ولأن الحس الاجتماعي للترابي وحركته ضعيف ولان قيم العدل الاجتماعي غائبة عن أفقهم فقد كان من الطبيعي لسياساتهم أن تفقر الغالبية الساحقة من السودانيين وأن توصل اقتصاد البلاد لطريق مسدود.
[3]
ورغم أن الغالبية الساحقة من السودانيين خسرت في ظل "المشروع الحضاري" للترابي وحركته ، إلا أن أكثر من خسروا وتضرروا هن النساء. خسرت المرأة خسارة كبيرة وفادحة لأن برنامج الإسلاميين يعاملها كمواطن من الدرجة الثانية. صحيح أن المرأة السودانية لم تخسر حقها في الانتخاب والترشيح (كما هو حادث في بلد مثل السعودية) ولم تخسر حقها في نيل التعليم (كما حدث في أفغانستان تحت حكم طالبان) وذلك لأن هذه الحقوق أضحت متجذّرة في السودان وما كان من الممكن للإسلاميين أن يجرأوا على مسّها، إلا أن الإسلاميين وضعوا الأساس القانوني الذي يعرقل المسيرة المستقبلية للمرأة ويسدّ الطريق في وجه استكمال انعتاقها من ربقة التمييز. إن أبرز سمتين تسمان برنامج الإسلاميين أو "مشروعهم الحضاري" هما تطبيق الحدود من ناحية وتطبيق أحكام النساء من الناحية الأخرى. وأحكام النساء كما هو معلوم تنطلق من قاعدة أن المرأة "ناقصة عقل ودين". وهكذا يقع التمييز ضدها على مستويات عديدة من أبرزها مستوى أهليتها لتولي منصب ما أطلق عليه العلماء "الإمامة الكبرى"، وبذا فإن المرأة لا تستطيع أن تصبح رئيسة للدولة، ومستوى قوانين الأحوال الشخصية، ومستوى الشهادة أمام المحاكم، ومستوى الميراث. صحيح أن النظام عيّن وزيرات من باب التكتيك والمسايرة لتقاليد العصر، ولكن ذلك لا يغيّر وضع الدونية النوعية في ظل أحكام الشريعة المفروضة إذ أن جنس الوزيرة كامرأة هو الذي يحدّد وضعيتها القانونية ويجعلها مواطنة من الدرجة الثانية رغم منصبها الوزار . لقد ناضلت النساء السودانيات طويلا ضد كل أشكال التمييز، ورغم التشوهات التي أفرزتها هيمنة الإسلاميين فإن نضال النساء في السودان لم يتوقف ومن المؤكد أنه سيتواصل إلى أن ينلن كامل حقوقهن. ومن الامثلة التي تبعث على التفاؤل وتستحقّ الإشادة ذلك الموقف الشجاع والجريء للصحفية لبنى حسين عندما واجهت تسلّط النظام في يوليو 2009 في قضية البنطلون الشهيرة وأجبرت الإسلاميين على التراجع مُعَرِّيَةً تهافت مشروعهم وعجز أدوات قمعهم.
[4]
ورغم أن الترابي يقف اليوم في المعارضة بعد أن أثبت حواريوه حسن تفقههم بفقههه فانقلبوا عليه وانفردوا بالسلطة، إلا أن ذلك يجب ألا يذهلنا عن حقيقة ما فعل الرجل وعن مسئوليته مهما علا صوته بالمعارضة. يجب أن نرفض ونقاوم كل محاولات الترابي لـ "تطبيع" نفسه وإعادة صناعة دوره السياسي وكأنه جزء من نضال السودانيين من أجل استعادة الحرية والديمقراطية التي سلبهم إياها. إن الترابي هو المسئول الأول عن انقلاب يوليو 1989 وهو بهذه الصفة لا يستطيع أن يتحلّل من المسئولية القانونية والأخلاقية لجرائم النظام. صحيح أن العميد عمر البشير هو الوجه العسكري والتنفيذي للنظام وأنه مجرم حرب، إلا أن الترابي مشارك من الدرجة الأولى في جرم البشير ويجب أن يقف معه في نفس قفص الاتهام، إذ أن انقلابه على الديمقراطية هو الذي مكّن العميد البشير وجعل كل جرائم النظام منذ لحظة الانقلاب إلى أن يسقط ممكنة .
وإرث الترابي يراه السودانيون اليوم في كل ما يحيط بهم، من انكماش في مساحة وطنهم لأن الجنوبيين قرروا بالإجماع الانفصال عنهم والاستقلال بوطنهم، ومن حرب مستمرة في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق لا تزال تذهب بحياة السودانيين وتشردهم، ومن فقر مدقع يهصرهم هصراً ، ومن تردٍ في تعليمهم وخدماتهم الصحية، ومن قوانين وأجهزة أمنية مدججة بالسلاح تدوس يوميا على كرامتهم وتنحطّ بإنسانيتهم.
لقد رفض الترابي أن يعتذر للشعب السوداني عن مسئوليته في الانقلاب على الديمقراطية وعما ترتّب عن انقلابه. وهو كقانوني يعلم أنه حتى لو اعتذر فإن ذلك لن يغيّر واقع الحال ولن يبرّئَه من جرائمه. وكما هو الحال في حالة العميد البشير فإن السودانيين لا يستطيعون الآن إلقاء القبض على الترابي ومحاكمته. إن قصارى ما يستطيعون أن يفعلوه هو أن يعقدوا للترابي وللبشير ولأركان نظامهما محكمة غيابية شبيهة بمحكمة الفيلسوف البريطاني برتراند رسل عام 1966 التي عقدها لمحاكمة أمريكا على جرائم حربها في فيتنام. هذا هو قصارى ما يستطيعون فعله الآن إلى أن تتغير الموازين وتتاح لهم الفرصة لمحاكمتهما ومحاكمة أعوانهما محاكمة حقيقية. ولكن وحتى إن لم يتحقق ذلك فمن الضروري أن يعمل السودانيون على أن يملك التاريخ كل الحقائق لإدانتهما وإدانة نظامهما . إن مثل هذه الإدانة على ما ظل الإسلاميون يقترفونه من انتهاكات وجرائم أمر في غاية الأهمية والحيوية إن أردنا لأبنائنا وبناتنا في المستقبل أن ينشأوا في واقع معافى تسوده قيم الحرية والعدالة واحترام كرامة الإنسان وحقوقه.